روى مسلم في صحيحه، عن تَمِيم بن أوس الداري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة". قال تميم: قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: "لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم"[1].
هذا الحديث الوجيز البليغ أحد الأحاديث التي يدور عليها الإسلام. قال محمد بن أسلم الطوسي: إنه أحد أرباع الدين. ورُوي مثل ذلك عن أبي داود.
معنى الدين النصيحة
"الدين النصيحة": أي الركن الأعظم في الدين هو النصحية، كما يقال: "الحج عرفة"[2]، و"الندم توبة"[3]، أي الركن الأعظم في الحج هو الوقوف بعرفة، والركن الأعظم في التوبة هو الندم، والركن الأعظم في الدين هو النصيحة.
فما معنى النصيحة؟
النصيحة والنصح كلمة تقارب معنى الإخلاص، ولهذا تفسر بمقابلها وتفهم على هذا النحو ... فيقابل النصيحة والنصح: الغش، فالإنسان إما ناصح وإما غاش، والمسلمون قوم نَصَحَةٌ بعضهم لبعض، والمنافقون قوم غَشَشَة بعضهم لبعض.
النصيحة كلمة جامعة يراد بها: إرادة الخير للمنصوح له، قولاً وعملاً، والقيام بوجوه الخير له إرادةً وفعلاً.
والنبي صلى الله عليه وسلم، يريد أن تكون العلائق قائمة على النصح والإخلاص والصفاء، لا على الغش، ولا على الخداع، ولا على الزور.
ولهذا سأل الصحابة حينما سمعوا هذه الكلمة: "الدين النصيحة"، أحبوا أن يعرفوا من الذين تكون لهم النصيحة؟ ولمَن يكون النُصْح؟ فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن النصيحة لكل مَن بينه وبين الإنسان عَلاقة مادية أو معنوية.
كيف تكون النصيحة لله
فأول ما تكون النصيحة لله تعالى: أن يكون ما بين الإنسان وبين الله عامرًا بالإخلاص، لا بالغش ولا بالرياء، أن تنصح لربك فتأتمر بأمره وتنتهي بنهيه وتقف عند حدِّه، وتحب فيه وتبغض فيه، وتسالم له وتحارب له، فأوثق عرى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله[4]، وفي الحديث: "مَن أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان"[5].
وأولئك الذين يراءون الناس في أعمالهم، ولا يقومون بالعمل إلا إذا كان الناس يرونهم أو يسمعون بهم، فإذا خَلَوا إلى أنفسهم ارتكبوا المُوبقات المُهلكة، واقترفوا الآثام المُردية، أولئك هم المنافقون: {إِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142].
كيف تكون النصيحة للرسول؟
ثم يلي المبدأ الأول وهو (النصيحة لله) مبدأ ثانٍ وهو: (النصيحة لرسوله).
فإن رسول الله هو مُمثِّل الإرادة الإلهية، ومبعوث العناية الربانية، إنه حين يأمر وينهى لا يُمثِّل نفسه وإنما يُمثِّل مَن أرسله، وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:1-4].
فلا عجب أن تكون طاعة هذا الرسول طاعة لله، واتباعه محبة لله، وبيعته مبايعة لله.
طاعة الرسول من طاعة الله
اسمعوا قول الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح:10]، {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء59، النور:54، محمد:33]، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].
إن الله قرن محبَّة رسوله بمحبَّته، وطاعة رسوله بطاعته، وبيعة رسوله ببيعته ... هذا ليعلمنا عن قدر هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وأن مَن أحب رسول الله فقد أحب الله.
وقد جاء في حديث أنس، الذي رواه البخاري: "ثلاث مَن كنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان: مَن كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومَن أحب عبدًا لا يحبه إلا لله عز وجل، ومَن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار"[6].
النصيحة لرسول الله، تكون باتباع سنته، وإحيائها ونشرها في الناس، وخاصة ما مات من السنن، فمن أحيا سنة ميتة فله الجنة، وفي الحديث: "بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء" قيل: ومَن الغرباء، يا رسول الله؟ قال: "الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي، ويحيون ما أمات الناس من سنتي"[7].
والمبدأ الثالث في النصيحة: هو (النصيحة لكتاب الله عز وجل)، أي الإخلاص لهذا القرآن العظيم، الذي أنزله الله شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين، والذي أنزله الله ليُصحِّح ما اعوجَّ من الحياة، ويصلح به ما فسد، وينوِّر به ما أظلم، ويهدي به للتي هي أقوم، فهو قانون السماء لهداية الأرض، ودستور الخالق لإصلاح الخَلق، لا يضلُّ مَن اهتدى به، ولا يعوجُّ فيقوَّم، مَن علم علمه سبق، ومَن قال به صدق، ومَن حكم به عدل، ومَن عمل به أُجر، ومَن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم.
كتاب الله، وحبل الله المتين، ممدود بينكم وبين ربكم، فمَن أمسك بهذا الحبل القوي، وتعلَّق بهذه العروة الوثقى، لا انفصام لها، فإنه واصل بهذا الحبل إلى الجنة... لأن منتهاه الجنة ...
كيف تكون النصيحة لكتاب الله؟
النصيحة لكتاب الله، أن نعمل به ... وأن نتبع هداه، وأن نقتبس من سَنَاه، وأن نُصدِّق شرائعه، وأن نتأدَّب بآدابه، ونتخلَّق بأخلاقه، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث سئلت السيدة عائشة عن خُلقه، فقالت: "كان خلقه القرآن"[8]، وفي رواية عن أبي الدرداء: "كان خلقه القرآن يرضى لرضاه، ويسخط لسخطه"[9].
كان عليه الصلاة والسلام مُفسِّرًا لهذا القرآن بقوله وعمله ...
كان مُصحفًا حيًا يمشي على الأرض، وقرآنًا يراه الناس بأعينهم أعمالاً، وواقعًا معاشًا في حياة الناس، لا مجرَّد ألفاظ تُتلى، ولا أقوال يُلوكها اللسان.
ومن معاني النصيحة لكتاب الله، أن نتدبَّره، ونتفهَّم ما أنزل الله فيه من معانٍ وأسرار تُصلح الحياة، وتُصلح الأفراد والمجتمعات، إن الله تعالى عاب على قوم أغلقوا قلوبهم عن نور هذا القرآن، فلم يتدبروه، فقال عز وجل: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29].
هذا الكتاب هو نور الحياة، للناس جميعًا، في كل عصر وفي كل مصر، {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم:1].
النصيحة لأئمة المسلمين
ثم النصيحة بعد ذلك لأئمة المسلمين ... لرُؤسائهم وحُكَّامهم وولاة أمرهم، تنصح لهم، تبغي لهم الخير، تُرشدهم إلى الهدى، تدلُّهم على الحق، لا تخشى في الله لومة لائم.
فمن فعل ذلك فقد قام بحق النصيحة.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: "إن الله يرضى لكم ثلاثًا، ويسخط لكم ثلاثًا: يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا، وأن تناصحوا من ولاه الله أموركم"[10].
الفرق بين النصيحة والفضيحة
وليس معنى النصيحة هي الفضيحة، فقد قال السلف: إن النصيحة بينك وبين أخيك في السر نصيحة، أما التشهير على ملأ الناس فهي فضيحة[11].
فالنصح أن تدلَّ الشخص على الخير ... وأن ترشده إلى الحق، كما كان عمر بن الخطاب يطلب إلى الناس أن ينصحوه ويقول: مرحبًا بالناصح أبد الدهر، مرحبًا بالناصح غدوًا وعشيًا
[12].
ابن الخطاب أنموذج في قبول النصيحة:
وكان عمر رضي الله عنه يقول على المنبر: "رحم الله مَن أهدى إليَّ عيوبي"[13]، وكان يقول لحذيفة بن اليمان الخبير بالمنافقين، والذي اختص بسرِّ المنافقين، وعرفه الرسول صلى الله عليه وسلم بهم، كان عمر يقول له: يا حذيفة! بالله عليك, أتجدني منهم؟ فيقول له حذيفة: لا يا عمر، ولا أُزكي أحدًا بعدك[14]. أي لا يريد أن يفتح هذا الباب حتى لا يكشف الأسرار.
عمر بن الخطاب ... يريد أن يطمئنَّ على نفسه، أهو من المنافقين أم من غير المنافقين؟!
وقال له رجل مرة: اتق الله يا ابن الخطاب. فضاق بعض الحاضرين بهذا، فقال عمر: دعوه، والله لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نسمعها.
النصيحة لعامة المسلمين[15]
ثم النصح لعامة المسلمين بعد ذلك كله ... أي لجماهير المسلمين، عليك أن تنصح لكل مسلم، ولا تغشه، في أي علاقة بينك وبينه، معنوية كانت أو مادية، كن ناصحًا لأخيك المسلم، فهذا من صفات الأنبياء الذين كانوا لقومهم ناصحين، كما قال نوح لقومه: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:62]، وكذلك قال هود لعاد: {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف:68]، وكذلك قال صالح لثمود: {أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:79].
وما أكثر الذين لا يحبون الناصحين!!
إن على المسلم أن ينصح لأخيه المسلم، ولا يغشه في أمر من الأمور، ولو كان في ذلك خسارة في دنياه، وضرر له شخصي، عليه أن ينصح له، فعلى التاجر أن يفرح لما فرح به المسلمون، يفرح برُخْص الأسعار، وإن كان في ذلك بعض الضرر بتجارته.
على المسلم أن ينصح في معاملته ولا يغش، فإن النبي صلى الله عليه وسلم، مر على صُبْرة طعام؛ فأدخل يده فيها فنال أصابعه بللاً، فقال: "ما هذا يا صاحب الطعام؟". قال: أصابته السماء. فقال: "أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟! من غش فليس مني"[16].
وأوجب صلى الله عليه وسلم على كل بائع أن يُبيِّن ما في سلعته من عيب... ولا يكتُمها ولا يغش المسلمين، كما في حديث وَاثِلَة بن الأَسْقَع: "لا يحل لأحد يبيع شيئًا إلا بيَّن ما فيه، ولا يحل لمَن علم ذلك إلا بيَّنه"[17].
وهكذا كان السلف:
باع ابن سيرين شاة له فقال للمشتري: اسمع يا فلان! إني أبرأ إليك من عيب فيها، إنها تقلب العلف برجلها[18].
وباع الحسن بن صالح جارية له: فقال للمشتري: أذكر لك شيئًا، إن هذه الجارية تَنَخَمَت مرة عندنا دمًا[19].
مرة واحدة طيلة إقامتها عنده تنخمت دمًا، ومع هذا أَبَى ضميره المؤمن وقلبه المسلم إلا أن يذكر ذلك ويُبيِّنه، ليبرأ من العُهدة، ويكون ناصحًا للمسلمين.
وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "مَن لم يهتم بأمر المسلمين، فليس منهم، ومَن لم يصبح ناصحًا لله ولرسوله ولكتابه ولإمامه ولعامة المسلمين فليس منهم"[20]، أي ليس على طريقتهم، وليس على مِلتهم، ولا يستحق أن يكون من جُملة المسلمين.
ومما يُذكر هنا أن يونس بن عبيد، وكان تاجرًا قد ترك ابن أخيه في الدكان وذهب إلى الصلاة، ثم عاد فوجد رجلاً قد اشترى ثوبًا من دكانه، فسأله يونس: بكم اشتريتها؟ قال: اشتريتها بأربعمائة. فقال له: لا ... هذا من ذوات المائتين، ارجع معي. قال: يا هذا، إنها عندنا تساوي خمسمائة. فقال: لا ... ولكنا لا نرضى لك إلا ما نرضاه لأنفسنا، هذه نبيعها بمائتين، عُدْ معي إلى الدكان. فقال: أنا راضٍ. قال: وإن كنت راضيًا. ثم عادا إلى الدكان، وذهب يونس إلى ابن أخيه وظل يُوَبِّخه ويُعنفه ويقول له: أما اتقيتَ الله؟ أما استحييتَ من الله؟ تربح نصف الثمن وتترك النصح للمسلمين؟ والله للنصح لمسلم خير من الدنيا وما فيها. ثم أعطى الرجل المائتين فرق ما بين الثمنين، ورضيتْ نفسه[21].
وكان بعض السلف واسمه حسان بن أبي سنان، من الورعين، وكانت له تجارة. أرسل إليه غلامه من الأهواز يقول له: إن قصب السكر عندنا قد أصابته آفة، فاشترِ ما شئت من السُّكر عندك. وذلك لأن تلف المحصول سيؤدِّي إلى ارتفاع الأسعار ...
فذهب حسان إلى بعض المنتجين، واشترى منه قدرًا كبيرًا من السُّكر فلم يلبث أن ارتفع السعر، وباع الرجل هذا السُّكر بثمن غالٍ، وكسب فيه ثلاثين ألفًا.
ثم عاد إليه ضميره، واستيقظ إيمانه، فذهب للرجل الذي اشترى منه السُّكر وقال له: إن غلامًا لي كان قد أبلغني بكيت ... وكيت ... وإني اشتريت منك ولم أعلمك بما حدث، فقد غششتك ولم أنصح لك. فقال: الآن قد أعلمتني، وقد بعتُك بسعر يومها، ولم أخسر شيئًا، وقد طيَّبتُه لك، فاذهب به. فعاد الرجل بعد أن رضي صاحبه، ولم يلبث قليلاً حتى أكله قلبه ولم يحتمل ذلك، فعاد إليه مرة أخرى وقال: ما هذا إني لم آتِ هذا الأمر من وجهه، ولكني جُرتُ عليك ولم أنصح لك. فناشدتُك الله إلا قبلتَ هذا الأمر، ورددتُ عليك الربح. وظلَّ به حتى ردَّ عليه الثلاثين ألفًا التي ربحها ... وعاد يقول وهو مرتاح القلب رضي النفس: الحمد لله الذي أنقذني من النار[22].
هكذا كان السلف ينصح بعضهم لبعض.
فالنصيحة هي الدين ...
وخاصة إذا استشارك مسلم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وإذا استنصحك فانصح له"[23]. قل له الحق، وأرشده إلى ما ترى أنه خير، ولا تخش لومة لائم.
خفِ الله فيه، ولا تخفْه هو في الله.
يقول السلف: أنصحُ الناس لك مَن خشي الله فيك[24].
ليس الناصح لك هو الذي يُدلِّلُك ويمدُّ لك في الحبل، ويُطْمِعُك في كل شيء، ويحاول أن يتملَّقك، ويسترضيك، فليس هذا هو الناصح ... بل الناصح لك حقًا هو الذي يدلُّك على الله، ويرشدك إلى طريق الآخرة، ويأخذ بيدك إلى الصراط المستقيم، ولو كان في ذلك ضيق لك، أو سخط لك في بعض الأحوال.
أنصح الناس لك مَن خشي الله فيك.
دخل بعض العلماء على بعض الأمراء فنصح له، فشدَّد عليه. فقال له بعض جلسائه: شَدَّدت على الأمير. فقال: لأن أنصحه حتى أُبكيه اليوم ويضحك عند الله غدًا، خير من أن يضحك اليوم ويبكي عند الله غدًا.
[1]- رواه مسلم في الإيمان (55)، وأحمد في المسند (19640)، وأبو داود في الأدب (4944)، والنسائي في البيعة (4197)، عن تميم الداري.
[2]- رواه أحمد في المسند (18774)، وقال محققوه: إسناده صحيح، وأبو داود في المناسك (1949)، والترمذي في الحج (2975)، وقال حديث حسن صحيح، والنسائي في مناسك الحج (3016)، وابن ماجه في المناسك (3015)، عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي.
[3]- رواه أحمد في المسند (4012)، وقال محققوه: صحيح وهذا إسناد قوي، وابن ماجه في الزهد (4252)، والطيالسي في المسند (1/50)، والبزار في المسند (5/310)، وأبو يعلى في المسند (8/380)، وابن حبان في صحيحه كتاب الرقائق (2/377)، والطبراني في الصغير (1/66)، وفي الأوسط (7/44)، والحاكم في المستدرك كتاب التوبة والإنابة (4/271)، والبيهقي في الشعب باب في معالجة كل ذنب بالتوبة (5/386)، وفي الكبرى كتاب الشهادات (10/154)، عن ابن مسعود، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (3429).
[4]- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوثق عرى الإيمان الحب في الله عز وجل والبغض في الله"، رواه أحمد في المسند (18524)، وقال محققوه: حديث حسن بشواهده، وهذا إسناد ضعيف لضعف ليث، والطيالسي في المسند (1/101)، وابن أبي شيبة في المصنف كتاب الزهد (7/80)، والبيهقي في الشعب باب في مباعدة الكفار والمفسدين (7/69)، عن البراء، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد وفيه ليث بن أبي سليم وضعفه الأكثر (1/267)، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: حسن لغيره (3030).
[5]- رواه أبو داود في السنة (4681)، وابن أبي شيبة في المصنف كتاب الزهد (7/130)، والطبراني في الأوسط (9/41)، وفي الكبير (8/134)، وفي مسند الشاميين (2/239)، عن أبي أمامة، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني وفيه صدقة بن عبد الله السمين ضعفه البخاري وأحمد وغيرهما، وقال أبو حاتم: محله الصدق، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (380).
[6]- متفق عليه: رواه البخاري في الإيمان (21)، ومسلم في الإيمان (43)، وأحمد في المسند (12002)، والنسائي في الإيمان وشرائعه (4988)، وابن ماجه في الفتن (4033)، عن أنس.
[7]- رواه الترمذي في الإيمان (2630) عن عمرو بن عوف، وقال:هذا حديث حسن، والطبراني في الكبير (17/16)، وضعفه الألباني في ضعيف الترمذي (492).
[8]- رواه أحمد في المسند (25302)، وقال محققوه: حديث صحيح على شرط الشيخين، وابن ماجه في الأحكام (2333)، وابن أبي شيبة في المصنف كتاب الرد على أبي حنيفة (7/301)، وأبو يعلى في المسند (8/275)، وابن خزيمة في صحيحه كتاب الصلاة (2/171)، والحاكم في المستدرك كتاب التفسير (2/541)، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، والبيهقي في الشعب باب في حب النبي (2/153)، عن عائشة.
[9]- رواه الطبراني في الأوسط (1/30)، والطبراني في معجم الشاميين (2/210)، والبيهقي في الشعب باب في حب النبي (2/154)، عن أبي الدرداء.
[10]- رواه مسلم في الأقضية (1715)، ولم يذكر: "وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم"، وأحمد في المسند (8799)، وقال محققوه: إسناده صحيح، وابن حبان في صحيحه (8/182) وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرطهما، ورواه البيهقي في الكبرى كتاب قتال أهل البغي (16433)، عن أبي هريرة.
[11]- قال الشافعي: مَن وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وخانه. رواه أبو نعيم في الحلية (9/140).
[12]- رواه الطبري في التاريخ (2/579).
[13]- انظر: سنن الدارمي (1/166).
[14]- رواه ابن أبي شيبة في المصنف كتاب الفتن (7/481).
[15]- راجع ما ذكرناه في كتابنا: (دور القيم والأخلاق في الاقتصاد الإسلامي) فصل: القيم والأخلاق في مجال التداول.
[16]- رواه مسلم في الإيمان (102)، وأحمد في المسند (7292)، وأبو داود في الإجارة (3452)، والترمذي في البيوع (1315)، وابن ماجه في الإجارات (2224).
[17]- رواه أحمد في المسند (16013)، وقال محققوه: إسناده ضعيف لجهالة أبي سباع، والطبراني في الكبير (22/91)، والحاكم في المستدرك كتاب البيوع (2/12)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، والبيهقي في الكبرى كتاب البيوع (5/320)، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: صحيح لغيره (1774)، انظر: المنتقى (992).
[18]- إحياء علوم الدين (2/77).
[19]- إحياء علوم الدين (2/77).
[20]- رواه الطبراني في الصغير (2/131)، والأوسط (7/270)، عن حذيفة بن اليمان، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني في الأوسط والصغير وفيه عبد الله بن أبي جعفر الرازي ضعفه محمد بن حميد ووثقه أبو حاتم وأبو زرعة وابن حبان (1/264)، انظر: المنتقى (997).
[21]- إحياء علوم الدين (2/79).
[22]- رواه أبو نعيم في الحلية (3/118)، وابن أبي الدنيا في الورع (1/105)، وذكره ابن رجب في جامع العلوم والحكم صـ110.
[23]- رواه مسلم في السلام (2162)، وأحمد في المسند (8845)، عن أبي هريرة.
[24]- جامع العلوم والحكم صـ82.
وطبعا الموضوع منقول من"- موقع الدكتور يوسف القرضاوي/
هذا الحديث الوجيز البليغ أحد الأحاديث التي يدور عليها الإسلام. قال محمد بن أسلم الطوسي: إنه أحد أرباع الدين. ورُوي مثل ذلك عن أبي داود.
معنى الدين النصيحة
"الدين النصيحة": أي الركن الأعظم في الدين هو النصحية، كما يقال: "الحج عرفة"[2]، و"الندم توبة"[3]، أي الركن الأعظم في الحج هو الوقوف بعرفة، والركن الأعظم في التوبة هو الندم، والركن الأعظم في الدين هو النصيحة.
فما معنى النصيحة؟
النصيحة والنصح كلمة تقارب معنى الإخلاص، ولهذا تفسر بمقابلها وتفهم على هذا النحو ... فيقابل النصيحة والنصح: الغش، فالإنسان إما ناصح وإما غاش، والمسلمون قوم نَصَحَةٌ بعضهم لبعض، والمنافقون قوم غَشَشَة بعضهم لبعض.
النصيحة كلمة جامعة يراد بها: إرادة الخير للمنصوح له، قولاً وعملاً، والقيام بوجوه الخير له إرادةً وفعلاً.
والنبي صلى الله عليه وسلم، يريد أن تكون العلائق قائمة على النصح والإخلاص والصفاء، لا على الغش، ولا على الخداع، ولا على الزور.
ولهذا سأل الصحابة حينما سمعوا هذه الكلمة: "الدين النصيحة"، أحبوا أن يعرفوا من الذين تكون لهم النصيحة؟ ولمَن يكون النُصْح؟ فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن النصيحة لكل مَن بينه وبين الإنسان عَلاقة مادية أو معنوية.
كيف تكون النصيحة لله
فأول ما تكون النصيحة لله تعالى: أن يكون ما بين الإنسان وبين الله عامرًا بالإخلاص، لا بالغش ولا بالرياء، أن تنصح لربك فتأتمر بأمره وتنتهي بنهيه وتقف عند حدِّه، وتحب فيه وتبغض فيه، وتسالم له وتحارب له، فأوثق عرى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله[4]، وفي الحديث: "مَن أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان"[5].
وأولئك الذين يراءون الناس في أعمالهم، ولا يقومون بالعمل إلا إذا كان الناس يرونهم أو يسمعون بهم، فإذا خَلَوا إلى أنفسهم ارتكبوا المُوبقات المُهلكة، واقترفوا الآثام المُردية، أولئك هم المنافقون: {إِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142].
كيف تكون النصيحة للرسول؟
ثم يلي المبدأ الأول وهو (النصيحة لله) مبدأ ثانٍ وهو: (النصيحة لرسوله).
فإن رسول الله هو مُمثِّل الإرادة الإلهية، ومبعوث العناية الربانية، إنه حين يأمر وينهى لا يُمثِّل نفسه وإنما يُمثِّل مَن أرسله، وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:1-4].
فلا عجب أن تكون طاعة هذا الرسول طاعة لله، واتباعه محبة لله، وبيعته مبايعة لله.
طاعة الرسول من طاعة الله
اسمعوا قول الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح:10]، {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء59، النور:54، محمد:33]، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].
إن الله قرن محبَّة رسوله بمحبَّته، وطاعة رسوله بطاعته، وبيعة رسوله ببيعته ... هذا ليعلمنا عن قدر هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وأن مَن أحب رسول الله فقد أحب الله.
وقد جاء في حديث أنس، الذي رواه البخاري: "ثلاث مَن كنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان: مَن كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومَن أحب عبدًا لا يحبه إلا لله عز وجل، ومَن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار"[6].
النصيحة لرسول الله، تكون باتباع سنته، وإحيائها ونشرها في الناس، وخاصة ما مات من السنن، فمن أحيا سنة ميتة فله الجنة، وفي الحديث: "بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء" قيل: ومَن الغرباء، يا رسول الله؟ قال: "الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي، ويحيون ما أمات الناس من سنتي"[7].
والمبدأ الثالث في النصيحة: هو (النصيحة لكتاب الله عز وجل)، أي الإخلاص لهذا القرآن العظيم، الذي أنزله الله شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين، والذي أنزله الله ليُصحِّح ما اعوجَّ من الحياة، ويصلح به ما فسد، وينوِّر به ما أظلم، ويهدي به للتي هي أقوم، فهو قانون السماء لهداية الأرض، ودستور الخالق لإصلاح الخَلق، لا يضلُّ مَن اهتدى به، ولا يعوجُّ فيقوَّم، مَن علم علمه سبق، ومَن قال به صدق، ومَن حكم به عدل، ومَن عمل به أُجر، ومَن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم.
كتاب الله، وحبل الله المتين، ممدود بينكم وبين ربكم، فمَن أمسك بهذا الحبل القوي، وتعلَّق بهذه العروة الوثقى، لا انفصام لها، فإنه واصل بهذا الحبل إلى الجنة... لأن منتهاه الجنة ...
كيف تكون النصيحة لكتاب الله؟
النصيحة لكتاب الله، أن نعمل به ... وأن نتبع هداه، وأن نقتبس من سَنَاه، وأن نُصدِّق شرائعه، وأن نتأدَّب بآدابه، ونتخلَّق بأخلاقه، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث سئلت السيدة عائشة عن خُلقه، فقالت: "كان خلقه القرآن"[8]، وفي رواية عن أبي الدرداء: "كان خلقه القرآن يرضى لرضاه، ويسخط لسخطه"[9].
كان عليه الصلاة والسلام مُفسِّرًا لهذا القرآن بقوله وعمله ...
كان مُصحفًا حيًا يمشي على الأرض، وقرآنًا يراه الناس بأعينهم أعمالاً، وواقعًا معاشًا في حياة الناس، لا مجرَّد ألفاظ تُتلى، ولا أقوال يُلوكها اللسان.
ومن معاني النصيحة لكتاب الله، أن نتدبَّره، ونتفهَّم ما أنزل الله فيه من معانٍ وأسرار تُصلح الحياة، وتُصلح الأفراد والمجتمعات، إن الله تعالى عاب على قوم أغلقوا قلوبهم عن نور هذا القرآن، فلم يتدبروه، فقال عز وجل: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29].
هذا الكتاب هو نور الحياة، للناس جميعًا، في كل عصر وفي كل مصر، {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم:1].
النصيحة لأئمة المسلمين
ثم النصيحة بعد ذلك لأئمة المسلمين ... لرُؤسائهم وحُكَّامهم وولاة أمرهم، تنصح لهم، تبغي لهم الخير، تُرشدهم إلى الهدى، تدلُّهم على الحق، لا تخشى في الله لومة لائم.
فمن فعل ذلك فقد قام بحق النصيحة.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: "إن الله يرضى لكم ثلاثًا، ويسخط لكم ثلاثًا: يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا، وأن تناصحوا من ولاه الله أموركم"[10].
الفرق بين النصيحة والفضيحة
وليس معنى النصيحة هي الفضيحة، فقد قال السلف: إن النصيحة بينك وبين أخيك في السر نصيحة، أما التشهير على ملأ الناس فهي فضيحة[11].
فالنصح أن تدلَّ الشخص على الخير ... وأن ترشده إلى الحق، كما كان عمر بن الخطاب يطلب إلى الناس أن ينصحوه ويقول: مرحبًا بالناصح أبد الدهر، مرحبًا بالناصح غدوًا وعشيًا
[12].
ابن الخطاب أنموذج في قبول النصيحة:
وكان عمر رضي الله عنه يقول على المنبر: "رحم الله مَن أهدى إليَّ عيوبي"[13]، وكان يقول لحذيفة بن اليمان الخبير بالمنافقين، والذي اختص بسرِّ المنافقين، وعرفه الرسول صلى الله عليه وسلم بهم، كان عمر يقول له: يا حذيفة! بالله عليك, أتجدني منهم؟ فيقول له حذيفة: لا يا عمر، ولا أُزكي أحدًا بعدك[14]. أي لا يريد أن يفتح هذا الباب حتى لا يكشف الأسرار.
عمر بن الخطاب ... يريد أن يطمئنَّ على نفسه، أهو من المنافقين أم من غير المنافقين؟!
وقال له رجل مرة: اتق الله يا ابن الخطاب. فضاق بعض الحاضرين بهذا، فقال عمر: دعوه، والله لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نسمعها.
النصيحة لعامة المسلمين[15]
ثم النصح لعامة المسلمين بعد ذلك كله ... أي لجماهير المسلمين، عليك أن تنصح لكل مسلم، ولا تغشه، في أي علاقة بينك وبينه، معنوية كانت أو مادية، كن ناصحًا لأخيك المسلم، فهذا من صفات الأنبياء الذين كانوا لقومهم ناصحين، كما قال نوح لقومه: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:62]، وكذلك قال هود لعاد: {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف:68]، وكذلك قال صالح لثمود: {أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:79].
وما أكثر الذين لا يحبون الناصحين!!
إن على المسلم أن ينصح لأخيه المسلم، ولا يغشه في أمر من الأمور، ولو كان في ذلك خسارة في دنياه، وضرر له شخصي، عليه أن ينصح له، فعلى التاجر أن يفرح لما فرح به المسلمون، يفرح برُخْص الأسعار، وإن كان في ذلك بعض الضرر بتجارته.
على المسلم أن ينصح في معاملته ولا يغش، فإن النبي صلى الله عليه وسلم، مر على صُبْرة طعام؛ فأدخل يده فيها فنال أصابعه بللاً، فقال: "ما هذا يا صاحب الطعام؟". قال: أصابته السماء. فقال: "أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟! من غش فليس مني"[16].
وأوجب صلى الله عليه وسلم على كل بائع أن يُبيِّن ما في سلعته من عيب... ولا يكتُمها ولا يغش المسلمين، كما في حديث وَاثِلَة بن الأَسْقَع: "لا يحل لأحد يبيع شيئًا إلا بيَّن ما فيه، ولا يحل لمَن علم ذلك إلا بيَّنه"[17].
وهكذا كان السلف:
باع ابن سيرين شاة له فقال للمشتري: اسمع يا فلان! إني أبرأ إليك من عيب فيها، إنها تقلب العلف برجلها[18].
وباع الحسن بن صالح جارية له: فقال للمشتري: أذكر لك شيئًا، إن هذه الجارية تَنَخَمَت مرة عندنا دمًا[19].
مرة واحدة طيلة إقامتها عنده تنخمت دمًا، ومع هذا أَبَى ضميره المؤمن وقلبه المسلم إلا أن يذكر ذلك ويُبيِّنه، ليبرأ من العُهدة، ويكون ناصحًا للمسلمين.
وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "مَن لم يهتم بأمر المسلمين، فليس منهم، ومَن لم يصبح ناصحًا لله ولرسوله ولكتابه ولإمامه ولعامة المسلمين فليس منهم"[20]، أي ليس على طريقتهم، وليس على مِلتهم، ولا يستحق أن يكون من جُملة المسلمين.
ومما يُذكر هنا أن يونس بن عبيد، وكان تاجرًا قد ترك ابن أخيه في الدكان وذهب إلى الصلاة، ثم عاد فوجد رجلاً قد اشترى ثوبًا من دكانه، فسأله يونس: بكم اشتريتها؟ قال: اشتريتها بأربعمائة. فقال له: لا ... هذا من ذوات المائتين، ارجع معي. قال: يا هذا، إنها عندنا تساوي خمسمائة. فقال: لا ... ولكنا لا نرضى لك إلا ما نرضاه لأنفسنا، هذه نبيعها بمائتين، عُدْ معي إلى الدكان. فقال: أنا راضٍ. قال: وإن كنت راضيًا. ثم عادا إلى الدكان، وذهب يونس إلى ابن أخيه وظل يُوَبِّخه ويُعنفه ويقول له: أما اتقيتَ الله؟ أما استحييتَ من الله؟ تربح نصف الثمن وتترك النصح للمسلمين؟ والله للنصح لمسلم خير من الدنيا وما فيها. ثم أعطى الرجل المائتين فرق ما بين الثمنين، ورضيتْ نفسه[21].
وكان بعض السلف واسمه حسان بن أبي سنان، من الورعين، وكانت له تجارة. أرسل إليه غلامه من الأهواز يقول له: إن قصب السكر عندنا قد أصابته آفة، فاشترِ ما شئت من السُّكر عندك. وذلك لأن تلف المحصول سيؤدِّي إلى ارتفاع الأسعار ...
فذهب حسان إلى بعض المنتجين، واشترى منه قدرًا كبيرًا من السُّكر فلم يلبث أن ارتفع السعر، وباع الرجل هذا السُّكر بثمن غالٍ، وكسب فيه ثلاثين ألفًا.
ثم عاد إليه ضميره، واستيقظ إيمانه، فذهب للرجل الذي اشترى منه السُّكر وقال له: إن غلامًا لي كان قد أبلغني بكيت ... وكيت ... وإني اشتريت منك ولم أعلمك بما حدث، فقد غششتك ولم أنصح لك. فقال: الآن قد أعلمتني، وقد بعتُك بسعر يومها، ولم أخسر شيئًا، وقد طيَّبتُه لك، فاذهب به. فعاد الرجل بعد أن رضي صاحبه، ولم يلبث قليلاً حتى أكله قلبه ولم يحتمل ذلك، فعاد إليه مرة أخرى وقال: ما هذا إني لم آتِ هذا الأمر من وجهه، ولكني جُرتُ عليك ولم أنصح لك. فناشدتُك الله إلا قبلتَ هذا الأمر، ورددتُ عليك الربح. وظلَّ به حتى ردَّ عليه الثلاثين ألفًا التي ربحها ... وعاد يقول وهو مرتاح القلب رضي النفس: الحمد لله الذي أنقذني من النار[22].
هكذا كان السلف ينصح بعضهم لبعض.
فالنصيحة هي الدين ...
وخاصة إذا استشارك مسلم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وإذا استنصحك فانصح له"[23]. قل له الحق، وأرشده إلى ما ترى أنه خير، ولا تخش لومة لائم.
خفِ الله فيه، ولا تخفْه هو في الله.
يقول السلف: أنصحُ الناس لك مَن خشي الله فيك[24].
ليس الناصح لك هو الذي يُدلِّلُك ويمدُّ لك في الحبل، ويُطْمِعُك في كل شيء، ويحاول أن يتملَّقك، ويسترضيك، فليس هذا هو الناصح ... بل الناصح لك حقًا هو الذي يدلُّك على الله، ويرشدك إلى طريق الآخرة، ويأخذ بيدك إلى الصراط المستقيم، ولو كان في ذلك ضيق لك، أو سخط لك في بعض الأحوال.
أنصح الناس لك مَن خشي الله فيك.
دخل بعض العلماء على بعض الأمراء فنصح له، فشدَّد عليه. فقال له بعض جلسائه: شَدَّدت على الأمير. فقال: لأن أنصحه حتى أُبكيه اليوم ويضحك عند الله غدًا، خير من أن يضحك اليوم ويبكي عند الله غدًا.
[1]- رواه مسلم في الإيمان (55)، وأحمد في المسند (19640)، وأبو داود في الأدب (4944)، والنسائي في البيعة (4197)، عن تميم الداري.
[2]- رواه أحمد في المسند (18774)، وقال محققوه: إسناده صحيح، وأبو داود في المناسك (1949)، والترمذي في الحج (2975)، وقال حديث حسن صحيح، والنسائي في مناسك الحج (3016)، وابن ماجه في المناسك (3015)، عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي.
[3]- رواه أحمد في المسند (4012)، وقال محققوه: صحيح وهذا إسناد قوي، وابن ماجه في الزهد (4252)، والطيالسي في المسند (1/50)، والبزار في المسند (5/310)، وأبو يعلى في المسند (8/380)، وابن حبان في صحيحه كتاب الرقائق (2/377)، والطبراني في الصغير (1/66)، وفي الأوسط (7/44)، والحاكم في المستدرك كتاب التوبة والإنابة (4/271)، والبيهقي في الشعب باب في معالجة كل ذنب بالتوبة (5/386)، وفي الكبرى كتاب الشهادات (10/154)، عن ابن مسعود، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (3429).
[4]- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوثق عرى الإيمان الحب في الله عز وجل والبغض في الله"، رواه أحمد في المسند (18524)، وقال محققوه: حديث حسن بشواهده، وهذا إسناد ضعيف لضعف ليث، والطيالسي في المسند (1/101)، وابن أبي شيبة في المصنف كتاب الزهد (7/80)، والبيهقي في الشعب باب في مباعدة الكفار والمفسدين (7/69)، عن البراء، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد وفيه ليث بن أبي سليم وضعفه الأكثر (1/267)، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: حسن لغيره (3030).
[5]- رواه أبو داود في السنة (4681)، وابن أبي شيبة في المصنف كتاب الزهد (7/130)، والطبراني في الأوسط (9/41)، وفي الكبير (8/134)، وفي مسند الشاميين (2/239)، عن أبي أمامة، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني وفيه صدقة بن عبد الله السمين ضعفه البخاري وأحمد وغيرهما، وقال أبو حاتم: محله الصدق، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (380).
[6]- متفق عليه: رواه البخاري في الإيمان (21)، ومسلم في الإيمان (43)، وأحمد في المسند (12002)، والنسائي في الإيمان وشرائعه (4988)، وابن ماجه في الفتن (4033)، عن أنس.
[7]- رواه الترمذي في الإيمان (2630) عن عمرو بن عوف، وقال:هذا حديث حسن، والطبراني في الكبير (17/16)، وضعفه الألباني في ضعيف الترمذي (492).
[8]- رواه أحمد في المسند (25302)، وقال محققوه: حديث صحيح على شرط الشيخين، وابن ماجه في الأحكام (2333)، وابن أبي شيبة في المصنف كتاب الرد على أبي حنيفة (7/301)، وأبو يعلى في المسند (8/275)، وابن خزيمة في صحيحه كتاب الصلاة (2/171)، والحاكم في المستدرك كتاب التفسير (2/541)، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، والبيهقي في الشعب باب في حب النبي (2/153)، عن عائشة.
[9]- رواه الطبراني في الأوسط (1/30)، والطبراني في معجم الشاميين (2/210)، والبيهقي في الشعب باب في حب النبي (2/154)، عن أبي الدرداء.
[10]- رواه مسلم في الأقضية (1715)، ولم يذكر: "وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم"، وأحمد في المسند (8799)، وقال محققوه: إسناده صحيح، وابن حبان في صحيحه (8/182) وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرطهما، ورواه البيهقي في الكبرى كتاب قتال أهل البغي (16433)، عن أبي هريرة.
[11]- قال الشافعي: مَن وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وخانه. رواه أبو نعيم في الحلية (9/140).
[12]- رواه الطبري في التاريخ (2/579).
[13]- انظر: سنن الدارمي (1/166).
[14]- رواه ابن أبي شيبة في المصنف كتاب الفتن (7/481).
[15]- راجع ما ذكرناه في كتابنا: (دور القيم والأخلاق في الاقتصاد الإسلامي) فصل: القيم والأخلاق في مجال التداول.
[16]- رواه مسلم في الإيمان (102)، وأحمد في المسند (7292)، وأبو داود في الإجارة (3452)، والترمذي في البيوع (1315)، وابن ماجه في الإجارات (2224).
[17]- رواه أحمد في المسند (16013)، وقال محققوه: إسناده ضعيف لجهالة أبي سباع، والطبراني في الكبير (22/91)، والحاكم في المستدرك كتاب البيوع (2/12)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، والبيهقي في الكبرى كتاب البيوع (5/320)، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: صحيح لغيره (1774)، انظر: المنتقى (992).
[18]- إحياء علوم الدين (2/77).
[19]- إحياء علوم الدين (2/77).
[20]- رواه الطبراني في الصغير (2/131)، والأوسط (7/270)، عن حذيفة بن اليمان، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني في الأوسط والصغير وفيه عبد الله بن أبي جعفر الرازي ضعفه محمد بن حميد ووثقه أبو حاتم وأبو زرعة وابن حبان (1/264)، انظر: المنتقى (997).
[21]- إحياء علوم الدين (2/79).
[22]- رواه أبو نعيم في الحلية (3/118)، وابن أبي الدنيا في الورع (1/105)، وذكره ابن رجب في جامع العلوم والحكم صـ110.
[23]- رواه مسلم في السلام (2162)، وأحمد في المسند (8845)، عن أبي هريرة.
[24]- جامع العلوم والحكم صـ82.
وطبعا الموضوع منقول من"- موقع الدكتور يوسف القرضاوي/