بقلم: د. توفيق علي
قرن الله سبحانه وتعالى بين الإيمان والإصلاح في مواضع كثيرة من كتابه، منها قوله تعالى: (فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الأنعام: من الآية 48)، وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2)) (محمد)، وقوله تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) (الحجرات: من الآية 9)، وقوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) (الحجرات: من الآية 10).
الإيمان في اللغة: التصديق (1).
وفي الشرع: عرَّفه الراغب- رحمه الله-: "بأنه إذعان النفس بالحق على سبيل التصديق وذلك بإجماع ثلاثة أشياء: تصديق القلب، وإقرار اللسان، وعمل الجوارح، وفقًا للتصديق والإقرار"(2).
وقال الإمام شمس الدين أبو عبد الله- رحمه الله-: "الإيمان حقيقة مركبة من معرفة ما جاء به الرسول- صلى الله عليه وسلم- والتصديق به والإقرار به نطقًا، والانقياد له محبةً وخضوعًا، والعمل به باطنًا وظاهرًا، وتنفيذه والدعوة إليه بحسب الإمكان"(3).
وقال صاحب المنار- رحمه الله- :"الإيمان هو التصديق الجازم المقترن بإذعان النفس وقبولها واستسلامها"(4).
أركان الإيمان:
وقد حددها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في حديث جبريل حين سأله عن الإيمان فقال: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأن تؤمن بالقدر خيره وشره"(5).
وشعب الإيمان:
وشعب الإيمان كثيرة، وقد أشار- صلى الله عليه وسلم- إلى بعضها فقال: "الإيمان بضع وستون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان"(6).
الإيمان يزيد وينقص:
قال الإمام شمس الدين أبو عبد الله- رحمه الله-: "الإيمان قول وعمل ونية وتمسك بالسنة، والإيمان يزيد وينقص"(7)، ومن شواهد ذلك من كتاب الله قال عز وجل (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)) (التوبة: من الآية 124) (، وقال عز وجل (وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيماً (الأحزاب 22)) "(9).
اقتران الإصلاح بالإيمان:
قال تعالى: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ . فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (10))؛ "أي فمن آمن قلبه بما جاءوا به، وأصلح عمله باتباعه إياهم"(11).
قال ابن عاشور- رحمه الله-: "معنى (أصلح) فعل الصلاح وهو الطاعة لله فيما أمر ونهى ؛ لأن الله ما أراد بشرعه إلا إصلاح الناس"(12).
وقال شيخ الإسلام- رحمه الله: قرن سبحانه وتعالى الصلاح والإصلاح بالإيمان في مواضع كثيرة كقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ (13) "(14)، (فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) (15).
ومعلوم أن الإيمان أفضل الإصلاح وأفضل العمل الصالح كما جاء عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: "سُئل النبي صلى الله عليه وسلم- أي الأعمال أفضل؟ قال: "إيمان بالله ورسوله" (16)، وقال تعالى: (إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً (17))" (18).
طبيعة الإيمان وقيمته في الحياة:
قال سيد قطب- رحمه الله- عن الإيمان: "إنه اتصال هذا الكائن الإنساني الفاني الصغير المحدود بالأصل الأزلي الباقي الذي صدر عنه الوجود، ومن ثم اتصاله بالكون الصادر عن ذات المصدر، وبالنواميس التي تحكم هذا الكون، وبالقوى والطاقات المذخورة فيه، والانطلاق حينئذ من حدود ذاته الصغيرة إلى رحابة الكون الكبير، ومن حدود قوته الهزيلة إلى عظمة الطاقات الكونية التي لا حدود لها، ومن قيود عمره القصير إلى امتداد الآباد التي لا يعلمها إلا الله رب العالمين"(19).
ثم يقول: "إن الإيمان نور، نور في القلب ونور في الجوارح، ونور في الحواس نور يكشف حقائق الأشياء، والقيم والأحداث وما بينها من ارتباطات ونِسَب وأبعاد، فالمؤمن ينظر بهذا النور- نور الله- ويرى الحقائق ويتعامل معها، ولا يخبط في طريقه، ولا يتعثر في خطواته.
والإيمان بصر، يرى رؤية حقيقية، صادقة غير مهزوزة، ولا مخلخلة ويمضي بصاحبه في الطريق على نور، وعلى ثقة، وفي اطمئنان.
والإيمان ظل ظليل، تستروحه النفس ويرتاح له القلب، ظل من هاجرة الشك والقلق والحيرة في التيه المظلم بلا دليل.
والإيمان حياة، في القلوب والمشاعر، حياة في القصد والاتجاه، كما أنه حركة بانية مُثْمِرة، لا خمود فيها، ولا همود، ولا عبث فيها ولا ضياع " (20).
والإيمان ليس مجرد معرفة ذهنية، ولا مجرد حشو للذاكرة بعبارات ومصطلحات وتضييع الأوقات في معارك جدلية عقيمة لا تضيف إلى رصيد الإنسان الإيماني أي فائدة ولكنها تشتيت للذهن وتفريق للصف ومضيعة للوقت وإهدار للمال واستهلاك للطاقات، يقول الشيخ محمد الغزالي- رحمه الله-: "هناك إيمان ضرير لا يُبْصِر الحياة، ولا تسحره عجائبها ولا تستهويه أسرارها، وهذا الإيمان يمكن أن تنسبه إلى أي مصدر غير القرآن العظيم الذي يحقق الإيمان البصير لا الضرير، والإيمان الذي ينمو ويقوى بالتأمل فـي الكون، ومطالعة آياته، والتعرف على خفاياه" (21).
والإيمان ليس مجرد شعارات تقال أو هتافات تردد، "ولكنه يقين يستقر في القلب وعلم يملأ الصدر، ونهج يمضي عليه المؤمنون.. إنه جهد، وبذل، وعطاء، وخشوع، وإنابة وسلوك.. فصَّل ذلك كله منهج الله تعالى تفصيلاً يقيم الحجة ويقطع الجدل، ويسد أبواب الشرك والنفاق"(22).
"إنه الإيمان الصادق الذي يقر في القلب تصديقًا ويقينًا، ويفيض على الجوارح سلوكًا وعملاً، إنه الإيمان الذي يضيء القلب، ويحرك الإرادة، ويوجه العقول، ويوظف الطاقات ليكون صورةً عمليةً واقعيةً يتجلى فيها ليثبت وجوده، ويترجم عن حقيقته، إنه الإيمان الذي يصلح القلوب، ويهيئ النفوس، ويصنع العجائب وينشئ الإنسان خلقًا آخر ويصبه في قالب جديد يغير هدفه ويهذب سلوكه وذوقه ونظرته للحياة" (23).
وبالإيمان حياة القلوب ونور البصائر وجلاء الأفهام وبه تسمو الأرواح وتتآلف وتتعاطف، وتتفتق الأذهان وتتوقد القرائح وتنشط الجوارح، وتعلو الهمم وتنهض الأمم، وهو السبيل إلى الحياة الآمنة المطمئنة الراضية المرضية الطيبة الكريمة قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (24) وقال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) (25)، (إن الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) (26).
ولا قيمة للحياة ولا وزن لها إن لم يحكمها الإيمان، فإذا ارتقت الأمم وتقدمت ماديًّا وتخلفت إيمانيًّا فإنها إلى الفناء تصير مهما طال بقاؤها، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) (27)).
ويقول الشاعر محمد إقبال- رحمه الله-(28):
إذا الإيمان ضاع فلا أمان ولا دنيا لمن لم يحي دينا
ومن رضي الحياة بغير دين فقد جعل الفناء لها قرينا
الإيمان مفتاح شخصية الأمة:
" إن مفتاح شخصية هذه الأمة ومصل طاقاتها هو الإيمان الذي جعل هذه الأمة من قبل خير أمة أخرجت للناس، وحقق لها النصر على أعظم الإمبراطوريات في الأرض على الرغم من قلة عددها وضعف عدتها، وبهذا الإيمان انتصرت بعد هجمات التتار الزاحفين من الشرق، والصليبيين الزاحفين من الغرب، وبه تستطيع اليوم الانتصـــار على ورثة هؤلاء وهؤلاء"(29).
والإيمان هو سلاحنا المضاء في مواجهتنا لأعدائنا وسبيلنا إلى التفوق عليهم : " لا شك أن الأمة الإسلامية الآن في صراع خطير مع قوى الكفر التي تملك من أسباب القوى المادية الشئ الكثير، وليس لدى الأمة الإسلامية من أسباب التفوق المادي ما يغني ؛ فإذا لم يتحقق عندها التفوق الإيماني فإن معركتها – لا محالة – خاسرة"(30).
فما أحوجنا إلى الإيمان بمفهومه الصحيح الشامل الذي ورد في كتاب الله وسنه رسول -صلى الله عليه وسلم- الإيمان الذي فهمه الصحابة الكرام والتابعون وتابعوهم بإحسان، ما أحوجنا إلى إيمان خالص راسخ يعيد لنا مجدنا وعزنا، وصدق الشاعر هاشم الرفاعي(31) -رحمه الله- عندما قال:
ملكنا هذه الدنيــا قـــرونا وأخضعها جدود خالــدونا
وسطرنا صحائف من ضيــاء فمانسي الزمــان وما نسينا
وما فتئ الزمـــان يدور حتى مضى بالمجد قـوم آخـرونـا
وأصبح لا يُرى بالمجــد قومي وقـد عاشــوا أئمتهم سنينا
وآلمنى وألم كل حــــــر سؤال الدهــر أين المسلمونا
ترى هــل يرجع الماضي ؟ فإنى أذوب لـذلك الماضـي حنينا
فهاتوا لي من الإيمـان نـــوراً وقـــووا بين جنبيَّ اليقـينا
فمد يديك وانتـــزع الرواسي لتبني المجــد خفاقـاً مبينا(32)
الإيمان سبب البركات:
قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ(33))، "أي: لوسعنا عليهم الخير ويسرناه لهم من كل جانب مكان"(34). وفي هذا دلالة على أن الله يجازي عباده الصالحين بطيب العيش.
"والبركات التي يعد الله بها الذين يؤمنون ويتقون , في توكيد ويقين , ألوان شتى لا يفصِّلها النص ولا يحددها، وإيحاء النص القرآني يصور الفيض الهابط من كل مكان , النابع من كل مكان , بلا تحديد ولا تفصيل ولا بيان، فهي البركات بكل أنواعها وألوانها، وبكل صورها وأشكالها , ما يعهده الناس وما يتخيلونه , وما لم يتهيأ لهم في واقع ولا خيال.
والذين يتصورون الإيمان بالله وتقواه مسألة تعبدية بحتة , لا صلة لها بواقع الناس في الأرض , لا يعرفون الإيمان ولا يعرفون الحياة، وما أجدرهم أن ينظروا هذه الصلة قائمةً يشهد بها الله -سبحانه- وكفى بالله شهيدًا، ويحققها النظر بأسبابها التي يعرفها الناس"(35).
وهنا يثار تساؤل لماذا نرى أممًا مسلمة مُضَيّقًا عليهم في الرزق، ونرى أممًا لا يؤمنون موسعًا عليهم في الرزق والقوة و النفوذ ؟
قال سيد قطب -رحمه الله- إن أولئك الذين يقولون:إنهم مسلمون، لا مؤمنون ولا متقون، إنهم لا يخلصون عبوديتهم لله , ولا يحققون في واقعهم شهادة أن لا إله إلا الله، إنهم يسلمون رقابهم لعبيد منهم , يتألهون عليهم , ويشرعون لهم - سواء القوانين أو القيم والتقاليد - وما أولئك بالمؤمنين، فالمؤمن لا يدع عبدًا من العبيد يتأله عليه, ولا يجعل عبدًا من العبيد ربه الذي يصرف حياته بشرعه وأمره، ويوم كان أسلاف هؤلاء الذين يزعمون الإيمان مسلمين حقًّا دانت لهم الدنيا, وفاضت عليهم بركات من السماء والأرض, وتحقق لهم وعد الله، فأما أولئك المفتوح عليهم في الرزق، فهذه هي السنة: (ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ(36))!، فهو الابتلاء بالنعمة، وهو أخطر من الابتلاء بالشدة، وفرق بينه وبين البركات التي يعدها الله من يؤمنون ويتقون، فالبركة قد تكون مع القليل إذا أحسن الانتفاع به, وكان معه الصلاح والأمن والرضى والارتياح، وكم من أمة غنية قوية ولكنها تعيش في شقوة, مهددة في أمنها مقطعة الأواصر بينها, يسود الناس فيها القلق وينتظرها الانحلال، فهي قوة بلا أمن، وهو متاع بلا رضى، وهي وفرة بلا صلاح، وهو حاضر زاه يترقبه مستقبل نكد، وهو الابتلاء الذي يعقبه النكال.
إن البركات الحاصلة مع الإيمان والتقوى, بركات في الأشياء, وبركات في النفوس وبركات في المشاعر, وبركات في طيبات الحياة، بركات تنمي الحياة وترفعها في آن وليست مجرد وفرة مع الشقوة والتردي والانحلال"(37).
أثر الإيمان في النفوس:
نموذج من القرآن: سحرة فرعون:
أولاً: سحرة فرعون وتعلقهم بعطايا فرعون:
قال تعالىوَجَاء السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ.قَالَ نَعَمْ وَإَنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ(38)). أي أجمع لكم بين الأجر والمنزلة عندي والقرب مني، وسألوا استحقاق الأجر إدلال بخبرتهم وبالحاجة إليهم إذ علموا أن فرعون شديد الحرص على أن يكونوا غالبين وخافوا أن يسخرهم فرعون بدون أجر؛ فشرطوا أجرهم من قبل الشروع في العمل ليقيدوه بوعده"(39).
وهذا دأب المستبدين، تسخير العباد بمختلف طاقاتهم ومهاراتهم لحساب ذواتهم، دون أن يعطوهم من الأجر ما يستحقونه.
ثانيًا: سحرة فرعون وتعلقهم بعظمة فرعون:
قال تعالى: (فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ(40)).
ثالثًا: أثر الإيمان في نفوسهم:
وعندما منَّ الله عليهم بالإيمان واليقين قالوا: قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا(41).
قال ابن عاشور- رحمه الله-: "أظهروا استخفافهم بوعيده وبتعذيبه إذ أصبحوا أهل إيمان ويقين، وكذلك شأن المؤمنين بالرسل إذا أشرفت عليهم أنوار الرسالة فسرعان ما يكون انقلابهم عن جهالة الكفر وقساوته إلى حكمة الإيمان وثباته"(42).
وتعليقًا على هذا التحول العجيب: قال ابن عباس- رضي الله عنهما-: "أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء"(43).
المستنبط من اقتران الإيمان والإصلاح:
1- أن الإيمان هو المنطلق الآمن للإصلاح، وبدونه لا يكون إصلاح، وإن تحقق كان هشًّا ما يلبس أن يزول.
2- أن طريق الإصلاح طريق الشهداء، فليوطن المصلحون أنفسهم على التضحيات العزيزة التي لا يحول دونها طمع ولا بخل.
3- كلما زاد إيمان المصلحين قرب موعد الإصلاح، وإذا تحقق الإصلاح ثبت ودام بزيادة الإيمان.
4- إن البركات الحاصلة مع الإيمان والتقوى, بركات في الأشياء, وبركات في النفوس وبركات في المشاعر, وبركات في طيبات الحياة. بركات تنمي الحياة وترفعها في آن وليست مجرد وفرة مع الشقوة والتردي والانحلال، كما يحدث في مناهج الإصلاح الأخرى.
قرن الله سبحانه وتعالى بين الإيمان والإصلاح في مواضع كثيرة من كتابه، منها قوله تعالى: (فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الأنعام: من الآية 48)، وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2)) (محمد)، وقوله تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) (الحجرات: من الآية 9)، وقوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) (الحجرات: من الآية 10).
الإيمان في اللغة: التصديق (1).
وفي الشرع: عرَّفه الراغب- رحمه الله-: "بأنه إذعان النفس بالحق على سبيل التصديق وذلك بإجماع ثلاثة أشياء: تصديق القلب، وإقرار اللسان، وعمل الجوارح، وفقًا للتصديق والإقرار"(2).
وقال الإمام شمس الدين أبو عبد الله- رحمه الله-: "الإيمان حقيقة مركبة من معرفة ما جاء به الرسول- صلى الله عليه وسلم- والتصديق به والإقرار به نطقًا، والانقياد له محبةً وخضوعًا، والعمل به باطنًا وظاهرًا، وتنفيذه والدعوة إليه بحسب الإمكان"(3).
وقال صاحب المنار- رحمه الله- :"الإيمان هو التصديق الجازم المقترن بإذعان النفس وقبولها واستسلامها"(4).
أركان الإيمان:
وقد حددها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في حديث جبريل حين سأله عن الإيمان فقال: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأن تؤمن بالقدر خيره وشره"(5).
وشعب الإيمان:
وشعب الإيمان كثيرة، وقد أشار- صلى الله عليه وسلم- إلى بعضها فقال: "الإيمان بضع وستون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان"(6).
الإيمان يزيد وينقص:
قال الإمام شمس الدين أبو عبد الله- رحمه الله-: "الإيمان قول وعمل ونية وتمسك بالسنة، والإيمان يزيد وينقص"(7)، ومن شواهد ذلك من كتاب الله قال عز وجل (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)) (التوبة: من الآية 124) (، وقال عز وجل (وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيماً (الأحزاب 22)) "(9).
اقتران الإصلاح بالإيمان:
قال تعالى: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ . فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (10))؛ "أي فمن آمن قلبه بما جاءوا به، وأصلح عمله باتباعه إياهم"(11).
قال ابن عاشور- رحمه الله-: "معنى (أصلح) فعل الصلاح وهو الطاعة لله فيما أمر ونهى ؛ لأن الله ما أراد بشرعه إلا إصلاح الناس"(12).
وقال شيخ الإسلام- رحمه الله: قرن سبحانه وتعالى الصلاح والإصلاح بالإيمان في مواضع كثيرة كقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ (13) "(14)، (فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) (15).
ومعلوم أن الإيمان أفضل الإصلاح وأفضل العمل الصالح كما جاء عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: "سُئل النبي صلى الله عليه وسلم- أي الأعمال أفضل؟ قال: "إيمان بالله ورسوله" (16)، وقال تعالى: (إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً (17))" (18).
طبيعة الإيمان وقيمته في الحياة:
قال سيد قطب- رحمه الله- عن الإيمان: "إنه اتصال هذا الكائن الإنساني الفاني الصغير المحدود بالأصل الأزلي الباقي الذي صدر عنه الوجود، ومن ثم اتصاله بالكون الصادر عن ذات المصدر، وبالنواميس التي تحكم هذا الكون، وبالقوى والطاقات المذخورة فيه، والانطلاق حينئذ من حدود ذاته الصغيرة إلى رحابة الكون الكبير، ومن حدود قوته الهزيلة إلى عظمة الطاقات الكونية التي لا حدود لها، ومن قيود عمره القصير إلى امتداد الآباد التي لا يعلمها إلا الله رب العالمين"(19).
ثم يقول: "إن الإيمان نور، نور في القلب ونور في الجوارح، ونور في الحواس نور يكشف حقائق الأشياء، والقيم والأحداث وما بينها من ارتباطات ونِسَب وأبعاد، فالمؤمن ينظر بهذا النور- نور الله- ويرى الحقائق ويتعامل معها، ولا يخبط في طريقه، ولا يتعثر في خطواته.
والإيمان بصر، يرى رؤية حقيقية، صادقة غير مهزوزة، ولا مخلخلة ويمضي بصاحبه في الطريق على نور، وعلى ثقة، وفي اطمئنان.
والإيمان ظل ظليل، تستروحه النفس ويرتاح له القلب، ظل من هاجرة الشك والقلق والحيرة في التيه المظلم بلا دليل.
والإيمان حياة، في القلوب والمشاعر، حياة في القصد والاتجاه، كما أنه حركة بانية مُثْمِرة، لا خمود فيها، ولا همود، ولا عبث فيها ولا ضياع " (20).
والإيمان ليس مجرد معرفة ذهنية، ولا مجرد حشو للذاكرة بعبارات ومصطلحات وتضييع الأوقات في معارك جدلية عقيمة لا تضيف إلى رصيد الإنسان الإيماني أي فائدة ولكنها تشتيت للذهن وتفريق للصف ومضيعة للوقت وإهدار للمال واستهلاك للطاقات، يقول الشيخ محمد الغزالي- رحمه الله-: "هناك إيمان ضرير لا يُبْصِر الحياة، ولا تسحره عجائبها ولا تستهويه أسرارها، وهذا الإيمان يمكن أن تنسبه إلى أي مصدر غير القرآن العظيم الذي يحقق الإيمان البصير لا الضرير، والإيمان الذي ينمو ويقوى بالتأمل فـي الكون، ومطالعة آياته، والتعرف على خفاياه" (21).
والإيمان ليس مجرد شعارات تقال أو هتافات تردد، "ولكنه يقين يستقر في القلب وعلم يملأ الصدر، ونهج يمضي عليه المؤمنون.. إنه جهد، وبذل، وعطاء، وخشوع، وإنابة وسلوك.. فصَّل ذلك كله منهج الله تعالى تفصيلاً يقيم الحجة ويقطع الجدل، ويسد أبواب الشرك والنفاق"(22).
"إنه الإيمان الصادق الذي يقر في القلب تصديقًا ويقينًا، ويفيض على الجوارح سلوكًا وعملاً، إنه الإيمان الذي يضيء القلب، ويحرك الإرادة، ويوجه العقول، ويوظف الطاقات ليكون صورةً عمليةً واقعيةً يتجلى فيها ليثبت وجوده، ويترجم عن حقيقته، إنه الإيمان الذي يصلح القلوب، ويهيئ النفوس، ويصنع العجائب وينشئ الإنسان خلقًا آخر ويصبه في قالب جديد يغير هدفه ويهذب سلوكه وذوقه ونظرته للحياة" (23).
وبالإيمان حياة القلوب ونور البصائر وجلاء الأفهام وبه تسمو الأرواح وتتآلف وتتعاطف، وتتفتق الأذهان وتتوقد القرائح وتنشط الجوارح، وتعلو الهمم وتنهض الأمم، وهو السبيل إلى الحياة الآمنة المطمئنة الراضية المرضية الطيبة الكريمة قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (24) وقال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) (25)، (إن الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) (26).
ولا قيمة للحياة ولا وزن لها إن لم يحكمها الإيمان، فإذا ارتقت الأمم وتقدمت ماديًّا وتخلفت إيمانيًّا فإنها إلى الفناء تصير مهما طال بقاؤها، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) (27)).
ويقول الشاعر محمد إقبال- رحمه الله-(28):
إذا الإيمان ضاع فلا أمان ولا دنيا لمن لم يحي دينا
ومن رضي الحياة بغير دين فقد جعل الفناء لها قرينا
الإيمان مفتاح شخصية الأمة:
" إن مفتاح شخصية هذه الأمة ومصل طاقاتها هو الإيمان الذي جعل هذه الأمة من قبل خير أمة أخرجت للناس، وحقق لها النصر على أعظم الإمبراطوريات في الأرض على الرغم من قلة عددها وضعف عدتها، وبهذا الإيمان انتصرت بعد هجمات التتار الزاحفين من الشرق، والصليبيين الزاحفين من الغرب، وبه تستطيع اليوم الانتصـــار على ورثة هؤلاء وهؤلاء"(29).
والإيمان هو سلاحنا المضاء في مواجهتنا لأعدائنا وسبيلنا إلى التفوق عليهم : " لا شك أن الأمة الإسلامية الآن في صراع خطير مع قوى الكفر التي تملك من أسباب القوى المادية الشئ الكثير، وليس لدى الأمة الإسلامية من أسباب التفوق المادي ما يغني ؛ فإذا لم يتحقق عندها التفوق الإيماني فإن معركتها – لا محالة – خاسرة"(30).
فما أحوجنا إلى الإيمان بمفهومه الصحيح الشامل الذي ورد في كتاب الله وسنه رسول -صلى الله عليه وسلم- الإيمان الذي فهمه الصحابة الكرام والتابعون وتابعوهم بإحسان، ما أحوجنا إلى إيمان خالص راسخ يعيد لنا مجدنا وعزنا، وصدق الشاعر هاشم الرفاعي(31) -رحمه الله- عندما قال:
ملكنا هذه الدنيــا قـــرونا وأخضعها جدود خالــدونا
وسطرنا صحائف من ضيــاء فمانسي الزمــان وما نسينا
وما فتئ الزمـــان يدور حتى مضى بالمجد قـوم آخـرونـا
وأصبح لا يُرى بالمجــد قومي وقـد عاشــوا أئمتهم سنينا
وآلمنى وألم كل حــــــر سؤال الدهــر أين المسلمونا
ترى هــل يرجع الماضي ؟ فإنى أذوب لـذلك الماضـي حنينا
فهاتوا لي من الإيمـان نـــوراً وقـــووا بين جنبيَّ اليقـينا
فمد يديك وانتـــزع الرواسي لتبني المجــد خفاقـاً مبينا(32)
الإيمان سبب البركات:
قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ(33))، "أي: لوسعنا عليهم الخير ويسرناه لهم من كل جانب مكان"(34). وفي هذا دلالة على أن الله يجازي عباده الصالحين بطيب العيش.
"والبركات التي يعد الله بها الذين يؤمنون ويتقون , في توكيد ويقين , ألوان شتى لا يفصِّلها النص ولا يحددها، وإيحاء النص القرآني يصور الفيض الهابط من كل مكان , النابع من كل مكان , بلا تحديد ولا تفصيل ولا بيان، فهي البركات بكل أنواعها وألوانها، وبكل صورها وأشكالها , ما يعهده الناس وما يتخيلونه , وما لم يتهيأ لهم في واقع ولا خيال.
والذين يتصورون الإيمان بالله وتقواه مسألة تعبدية بحتة , لا صلة لها بواقع الناس في الأرض , لا يعرفون الإيمان ولا يعرفون الحياة، وما أجدرهم أن ينظروا هذه الصلة قائمةً يشهد بها الله -سبحانه- وكفى بالله شهيدًا، ويحققها النظر بأسبابها التي يعرفها الناس"(35).
وهنا يثار تساؤل لماذا نرى أممًا مسلمة مُضَيّقًا عليهم في الرزق، ونرى أممًا لا يؤمنون موسعًا عليهم في الرزق والقوة و النفوذ ؟
قال سيد قطب -رحمه الله- إن أولئك الذين يقولون:إنهم مسلمون، لا مؤمنون ولا متقون، إنهم لا يخلصون عبوديتهم لله , ولا يحققون في واقعهم شهادة أن لا إله إلا الله، إنهم يسلمون رقابهم لعبيد منهم , يتألهون عليهم , ويشرعون لهم - سواء القوانين أو القيم والتقاليد - وما أولئك بالمؤمنين، فالمؤمن لا يدع عبدًا من العبيد يتأله عليه, ولا يجعل عبدًا من العبيد ربه الذي يصرف حياته بشرعه وأمره، ويوم كان أسلاف هؤلاء الذين يزعمون الإيمان مسلمين حقًّا دانت لهم الدنيا, وفاضت عليهم بركات من السماء والأرض, وتحقق لهم وعد الله، فأما أولئك المفتوح عليهم في الرزق، فهذه هي السنة: (ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ(36))!، فهو الابتلاء بالنعمة، وهو أخطر من الابتلاء بالشدة، وفرق بينه وبين البركات التي يعدها الله من يؤمنون ويتقون، فالبركة قد تكون مع القليل إذا أحسن الانتفاع به, وكان معه الصلاح والأمن والرضى والارتياح، وكم من أمة غنية قوية ولكنها تعيش في شقوة, مهددة في أمنها مقطعة الأواصر بينها, يسود الناس فيها القلق وينتظرها الانحلال، فهي قوة بلا أمن، وهو متاع بلا رضى، وهي وفرة بلا صلاح، وهو حاضر زاه يترقبه مستقبل نكد، وهو الابتلاء الذي يعقبه النكال.
إن البركات الحاصلة مع الإيمان والتقوى, بركات في الأشياء, وبركات في النفوس وبركات في المشاعر, وبركات في طيبات الحياة، بركات تنمي الحياة وترفعها في آن وليست مجرد وفرة مع الشقوة والتردي والانحلال"(37).
أثر الإيمان في النفوس:
نموذج من القرآن: سحرة فرعون:
أولاً: سحرة فرعون وتعلقهم بعطايا فرعون:
قال تعالىوَجَاء السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ.قَالَ نَعَمْ وَإَنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ(38)). أي أجمع لكم بين الأجر والمنزلة عندي والقرب مني، وسألوا استحقاق الأجر إدلال بخبرتهم وبالحاجة إليهم إذ علموا أن فرعون شديد الحرص على أن يكونوا غالبين وخافوا أن يسخرهم فرعون بدون أجر؛ فشرطوا أجرهم من قبل الشروع في العمل ليقيدوه بوعده"(39).
وهذا دأب المستبدين، تسخير العباد بمختلف طاقاتهم ومهاراتهم لحساب ذواتهم، دون أن يعطوهم من الأجر ما يستحقونه.
ثانيًا: سحرة فرعون وتعلقهم بعظمة فرعون:
قال تعالى: (فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ(40)).
ثالثًا: أثر الإيمان في نفوسهم:
وعندما منَّ الله عليهم بالإيمان واليقين قالوا: قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا(41).
قال ابن عاشور- رحمه الله-: "أظهروا استخفافهم بوعيده وبتعذيبه إذ أصبحوا أهل إيمان ويقين، وكذلك شأن المؤمنين بالرسل إذا أشرفت عليهم أنوار الرسالة فسرعان ما يكون انقلابهم عن جهالة الكفر وقساوته إلى حكمة الإيمان وثباته"(42).
وتعليقًا على هذا التحول العجيب: قال ابن عباس- رضي الله عنهما-: "أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء"(43).
المستنبط من اقتران الإيمان والإصلاح:
1- أن الإيمان هو المنطلق الآمن للإصلاح، وبدونه لا يكون إصلاح، وإن تحقق كان هشًّا ما يلبس أن يزول.
2- أن طريق الإصلاح طريق الشهداء، فليوطن المصلحون أنفسهم على التضحيات العزيزة التي لا يحول دونها طمع ولا بخل.
3- كلما زاد إيمان المصلحين قرب موعد الإصلاح، وإذا تحقق الإصلاح ثبت ودام بزيادة الإيمان.
4- إن البركات الحاصلة مع الإيمان والتقوى, بركات في الأشياء, وبركات في النفوس وبركات في المشاعر, وبركات في طيبات الحياة. بركات تنمي الحياة وترفعها في آن وليست مجرد وفرة مع الشقوة والتردي والانحلال، كما يحدث في مناهج الإصلاح الأخرى.